إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / ثقافة الاستهلاك









ثقافة الاستهلاك

ثقافة الاستهلاك

يُعد مفهوم الاستهلاك من أعقد المفاهيم في العلوم الاجتماعية، لأن الاستهلاك عملية جماعية لها جوانبها الاجتماعية المهمة. إن أغلب ما يستهلكه الفرد هو نتيجة تلقائية لما يستهلكه الآخرون، وكثيراً ما يقلد الفرد  غيره في الاستهلاك، فقط لأنه لا يعرف ما يستهلك. ولذلك عُرف الاستهلاك لغوياً في اللغة الإنجليزية بوصفه "العملية التي يتم من خلالها تدمير المنفعة الاقتصادية للسلعة، باستعمالها استعمالاً كاملاً".

ويُعرف الاستهلاك من الناحية الاقتصادية بأنه: "تدمير أو هلاك السلعة أو الخدمة المُنتجة عن طريق الاستعمال؛ ويحدث هذا الهلاك بعد الحصول، أو انقضاء وقت حصول، المستهلكين عليها أو امتلاكها". ويعني هذا أن الاستهلاك هو الغرض النهائي للنشاط الاقتصادي في سائر المجتمعات الإنسانية، أو كما وصفه آدم سميث بأنه "الهدف النهائي للإنتاج".

ويرتبط مفهوم الاستهلاك بمفهوم آخر، هو مفهوم مستويات الاستهلاك Standards of Consumption ، وهو يشير إلى الأهداف التي يسعى الأفراد إلى تحقيقها فيما يتصل بالاستهلاك، وهي الأهداف التي تحدد الطريقة التي تنفق بها الأسرة نقودها. وهذا ينقلنا إلى مفهوم أنماط الاستهلاك Patterns of Consumption، والذي يُشير إلى الطرق أو الأساليب، التي تُنفق بها النقود بشكل عام.

ولكنه يُعرف بشكل أكثر تحديداً بوصفه الأساليب التي تنفق بها الأسرة نقودها، لمواجهة حاجات بيولوجية واجتماعية وثقافية. وفي ضوء هذا التعريف تتحدد أنماط الاستهلاك في نمطين، هما:

1. أنماط الاستهلاك العادية: وهي التي تتصل بالإنفاق على الحاجات الإنسانية الأساسية، التي تتخذ شكلاً مستمراً ومنتظما. ومن هذه الأنماط ما يسد حاجات بيولوجية، مثل الإنفاق على المسكن والطعام؛ ومنها ما يسد حاجات اجتماعية ويرتبط برموز خاصة، مثل الإنفاق على الخدم والسيارات ووسائل الترويح المختلفة.

2. أنماط الاستهلاك غير العادية: وتتصل بإنفاق الأسرة في مناسبات بعينها، سواء كانت مناسبات تخص عضواً من أعضائها، مثل الاحتفال بأعياد الميلاد أو النجاح أو الزواج، أو مناسبات دينية، كالإنفاق على الحج والعمرة والعيدين. وهي تهدف، عادة، إلى إشباع حاجات اجتماعية وثقافية.

وتعني ثقافة الاستهلاك، بشكل عام، تلك الجوانب الثقافية المصاحبة للعملية الاستهلاكية، أي مجموع المعاني والرموز والصور، التي تصاحب العملية الاستهلاكية، والتي تضفي على هذه العملية معناها، وتحقق دلالتها في الحياة اليومية. ووفقاً لهذا التعريف، فإن للثقافة الاستهلاكية جوانب مادية واضحة؛ لأنها تدور بالأساس حول عملية استهلاك مادي؛ ولكن فهم هذه الجوانب المادية لا يكتمل إلا بفهم الجوانب المعنوية المتصلة بها، والتي توسع من دائرة الثقافة الاستهلاكية، لتشمل المعاني والرموز والصور المصاحبة لعملية الاستهلاك المادية. إن المعاني والرموز والصور المصاحبة للعملية الاستهلاكيةن تظهر –عادة- في مستويات ثلاثة، هي: ما قبل العملية الاستهلاكية، وأثناء الاستهلاك الفعلي، وما بعد الاستهلاك.

ومن هذا يتضح أن الثقافة الاستهلاكية -كما يقول مارتين لي- تتضمن ترابط الأنشطة الاقتصادية مع الممارسات الثقافية، التي يمكن تحديدها تماماً بواسطة دوران رأس المال، أو سيكولوجية الأفراد. كما تتضمن، كذلك، العلامات والإشارات والطقوس والممارسات، والقيم المرتبطة بالسلع والمنتجات، وعملية الشراء. ومن ثم تتحدد الثقافة الاستهلاكية بأنها جزء من الثقافة العامة للمجتمع، وتخضع لمعطياتها؛ لذا فهي تتشكل من المعاني، والرموز والممارسات المصاحبة للاستهلاك. ولكونها ثقافة، فهي تتأثر بالتغيرات التي تطرأ على السياق البنائي العام، خاصة الثقافة الوافدة. ونظراً لاتسامها بالمرونة، فهي تظهر ردود أفعال متباينة تجاه تلك التغيرات، من أجل الاستمرار. ويمكن الكشف عن السياق العام لتلك الثقافة بالرجوع إلى بعض المنشآت، التي يمارس فيها الاستهلاك، مع الأخذ في الاعتبار المعنى والرمز والممارسات الكامنة وراء هذا المكان، والآليات التي تُتخذ لجذب الثقافة الاستهلاكية نحوها.

ووفقاً لذلك، يرتبط مفهوم ثقافة الاستهلاك بمجموعة أخرى من المفاهيم، مثل مفهوم النزعة الاستهلاكية Consumerism، والذي يعني تحول معاني ورموز الاستهلاك إلى هدف في حد ذاته. ومن هذه المفاهيم، أيضاً، ذلك الذي يُشير إلى أنماط محددة وواعية من التفضيلات تميز السلوك  الاستهلاكي، وتُضفي عليه طابعاً أسلوبياً Stylistic متميزاً، أي مفهوم أسلوب الحياة Life Style. كما يرتبط كذلك بمفهوم رموز الاستهلاك، والذي يتضمن تحول الاستهلاك إلى لغة أشبه بلغة الحياة اليومية، يخاطب بها الأفراد بعضهم بعضاً، ويكونون من خلالها رصيداً رمزياً، يحدد مكانة الأفراد ونطاق تفاعلهم. وأخيراً نجد مفهوم استهلاك الصور Consumption of images، حيث يرتبط استهلاك سلعة معينة، بصورة ذهنية معينة خاصة بهذه السلعة، من خلال أسلوب العرض أو تكرار الدعاية والإعلان عن هذه السلعة. وتترابط هذه الموضوعات مهما ترابطاً وثيقاً في بوتقة واحدة، هي بوتقة الثقافة الاستهلاكية.

وعلى هذا تشير ثقافة الاستهلاك في مضمونها، إلى أن وساطة الأشياء تعد من أكثر الآليات أهمية في التفاعل الاجتماعي بين الناس، وتتضمن بالأساس مستويات رمزية عديدة؛ ولكنها لا تُفهم إلا من خلال شكل من أشكال الثقافة المادية بالمعنى الأنثربولوجي.

وهي تلك الثقافة التي ظهرت في بداية القرن العشرين، كما يقول فيزرستون، من خلال تشجيع كميات ضخمة من استهلاك الصور. ويرى فيزرستون أن ثمة ثلاثة منظورات أساسية في تحديد ثقافة الاستهلاك، وهي:

·      المنظور الأول: يرى أنها نجمت عن انتشار سلع الإنتاج الرأسمالي، التي أدت إلى تراكم الثقافة المادية، في شكل سلع وخدمات استهلاكية.

·      المنظور الثاني: يرى أنها تحقق الإشباع من السلع الاستهلاكية، ويرتبط بالمكانات الاجتماعية، أو التمايزات الاجتماعية.

·      المنظور الثالث: يتركز حول تحقيق السعادة العاطفية والجمالية، من خلال عملية الاستهلاك.

وهذا يعني أن للثقافة الاستهلاكية جوانب مادية، تتمثل في الاستهلاك المادي للسلع. كما أن لها جوانبها المعنوية، التي تتصل بالمعاني والرموز والصور المصاحبة لعملية الاستهلاك المادية. وعلى هذا تُعرف الثقافة الاستهلاكية بوصفها "مجموع المعاني (الرموز والصور المصاحبة لعملية الاستهلاك)، بدءاً من تبلور الرغبة الاستهلاكية، مروراً بالاستهلاك الفعلي، وانتهاءً بما بعد عملية الاستهلاك". كما تظهر في الصور المرتبطة بسلع معينة، لها مكانة خاصة في أذهان الناس.

ويورد الباحثون مجموعة من الخصائص، التي تميز الثقافة الاستهلاكية؛ منها:

1. توصف ثقافة الاستهلاك بأنها مادية Materialistic، فهي تدور حول استهلاك السلع المادية، لأنها تعتمد على فكرة التبادل العقلاني المبني على الإنتاج السلعي الواسع النطاق، وإقامة أسواق جديدة للسلع الاستهلاكية. وتتأثر هذه السلع بالطريقة التي تُعرض بها، والمكان الذي تُعرض فيه؛ إذ أصبحت تُعرض على نحو خاص ويُنفق عليها مبالغ طائلة، كي تبدو على نحو أفضل مما هي عليه في الواقع المعيش.

2. كما تتميز الثقافة الاستهلاكية بجوانبها المعنوية؛ فهي لا ترتبط بالممارسات المادية فقط، وإنما ترتبط، أيضاً، باستهلاك المعاني والخبرات والصور؛ فالأسلوب الذي تُعرض به السلع، أو الذي يُعلن به عنها، يرتبط بصورة معينة يسعى إلى تثبيتها في ذهن المشتري. ومن ثم، فإن ممارسة التسوق Shopping ليست تعاملاً اقتصادياً فحسب؛ ولكنها تعامل معنوي يكتسب الفرد من خلاله خبرات خاصة، ويستدعي من خلاله مجموعة خاصة من الصورة الذهنية. بل إن هذا الجانب المعنوي قد يطغى على الجانب المادي، عندما يتحول فعل الشراء إلى هدف ثانوي، ويتحول الاستمتاع بعملية الشراء إلى هدف أساسي. وهذا هو ما يُطلق عليه الباحثون "الاستهلاك البصري"، حيث يصبح التجول في السوق هدفاً في حد ذاته. ولهذه العملية جانبان؛ الجانب الأول يرتبط بالاستمتاع الشخصي والمعنوي؛ والجانب الثاني يرتبط بوعي الشخص بظهوره في السوق، والصورة التي يثيرها لدى الآخرين من خلال هذا الظهور، أي أن الثقافة الاستهلاكية هي في جوهرها ثقافة صور وتصوير.

3. تتسم الثقافة الاستهلاكية، كذلك، بالطابع الأسلوبي Stylestic، بحيث يكون للسلعة تأثير أسلوبي يُعبر عن فردية، أو تفرد مالكها. وتعبر الثقافة الاستهلاكية، غالباً، عن ذلك، بربط السلع بشخصيات معينة، أو بأنماط معينة للشخصية. ويحدث ذلك عندما تحاول الإعلانات أن تربط سلعة معينة بشخصية مشهورة يعرفها الناس. وبهذه الطريقة تحاول الثقافة الاستهلاكية -ليس خلق المعاني والصور في أذهان الناس فحسب- بل أن تدعم تمايزات اجتماعية معينة.

4. تتسم الثقافة الاستهلاكية بالتحول المستمر والسريع. ويظهر هذا التحول على مستويات عدة، أولها مستوى عام يرتبط بقابلية المعاني، التي ترتبط بقابلية ثقافة الاستهلاك للتحول. لذلك وصف بعض الباحثين ثقافة الاستهلاك بأن كل شيء منها يُصبح قابلاً للتبادل مع أي شيء؛ فليس هناك من حدود لتحول المعاني وانتقالها. أما المستوى الثاني، لتحول الثقافة الاستهلاكية فإنه ينكشف من خلال التناقض، الذي تخلفه الثقافة الاستهلاكية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ ذلك إن الثقافة الاستهلاكية تحول كثيراً من المعاني والتصورات في مخيلة الأفراد، وتخلق في داخلهم أنواعاً من التناقض، قد لا تكون موجودة في ثقافتهم الأصلية. أما المستوى الثالث والأخير، الذي يكشف تحولات ثقافة الاستهلاك وتناقضاتها، فيرتبط بعلاقة هذه الثقافة بالثقافة الأصلية، حيث تُعد عنصراً مهماً في تحويل العناصر التقليدية من الثقافة، ومنحها معانٍ جديدة من الثقافة الاستهلاكية الحديثة.

5. تتميز الثقافة الاستهلاكية بالإنتاج المستمر للعلامات Signs، والرموز Symbols؛ فالمستهلكون على وعي بأنهم يتحدثون من خلال مظهرهم وملابسهم، والسلع والممارسات التي تُحيط بهم. وبهذا المعنى فالثقافة الاستهلاكية تخلق من الرموز ما يجعلنا نفهم ذواتنا وذوات الآخرين، على نحو معين. وتمتد رمزية ثقافة الاستهلاك إلى الجانب التذوقي والجمالي من الثقافة.

6. أخيراً، تتصف الثقافة الاستهلاكية بأنها ثقافة قهرية، تدفع الناس دفعاً إلى الاستهلاك والركض خلف طموحاته، بغض النظر عن الفوائد الفعلية المتحققة من ذلك.