إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



كلمة الملك سعود إلى حجاج بيت الله الحرام
(أم القرى العدد 1919 في 7 ذو الحجة 1381 الموافق 11 مايو 1962)

إخواني
          الحمد لله الذي جمعنا على تقواه ومرضاته، والحمد لله الذي ألف بين قلوبنا، وهيأ لنا سبيل الهداية والقدرة على طاعته ورضوانه، وأحمده تعالى أن من الله علينا بالشفاء، وأعاننا على أداء الحج إلى بيت الله وأن نكون بينكم هذا العام، في هذا المكان الذي شرفه الله، وجعله مهبطاً للوحي، ومكاناً للعبادة، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي حمل الرسالة التي جاءت هدى ورحمة.

          أما بعد، فإنها حكمة بالغة تلك التي شرعها الله للمسلمين من حج البيت، فالحج عبادة وتطهير للنفوس، وتجرد لله عز وجل. وقد حمى الله العائذ بالبيت الحرام، والراتع في ساحته من مواقع الآفات، الحج فرصة هيأها الله للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ للتعارف وتدارس شؤون دينهم ودنياهم. والمسلمون في أيامنا هذه في أشد ما يكونون حاجة  للنظر في شؤون دينهم ودنياهم. فهم يعيشون في عصر انطلقت فيه القوى المادية، والمذاهب الملحدة من عقالها، وأخذت توجه سهامها وحممها للإسلام، والقيم الروحية والنظم الحضارية التي يمثلها هذا الدين الحنيف، الذي أنزله الله على نبينا، فعبأت كافة الوسائل والإمكانيات المقنعة والمكشوفة والخبيثة والدنيئة؛ لإدراك أهدافها الهدامة فحق على المسلمين أن يهبوا في وجه هذه المحاولات، متكاتفين متراصين، متشاورين متفقين، حفاظاً على دينهم، وتثبيتاً لعقيدتهم، وتدعيماً لمثلهم العليا الإنسانية والحضارية.

          والمسلمون في هذا العصر مواجهون بتحديات عديدة في مجالات الحياة والرقي والرزق، وخليق بهم أن يرتفعوا إلى مستوى هذه التحديات، إن كانوا يريدون حقاً أن يؤدوا رسالة الإسلام، فلقد أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر علا شأنها، وزاد عزمها ومجدها، فاتسع ملكها، وطاب لها الزمان بما استمسكت به من تعاليم الإسلام في العدل والرحمة والرقي، وملكته في جميع القلوب وتأليفها والإقبال على الله اتحدت صفوف الأمة. وانصرفت إلى الحق والعدل والرقي. ورفضت الباطل، وذهب التنابذ، وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة وسادت واتسعت.

          لكن الخلاف والأطماع، وعوامل الفرقة والبعد عن أحكام الله، بدأت تحيق بالأمة الإسلامية، فكشفت لها وجوه التنابذ والحسد، ودبت إلى مهادها عقارب السعاية، فضعفت وتفككت، ولم تزل في تناقص إلى أن خرج الأمر من أيديها، سنة الله في خلقه. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وما لبثت الأمة الإسلامية أن استيقظت على حاضرها الأليم، واستذكرت أمجادها، وعقدت العزم على التخلص من أدران الماضي وظلماته، وافتتاح عهد جديد من العزة والمنعة، تعلو فيه كلمة الإسلام، وتخفق ألويته وضاءة بنور الحق والعلم والرفاهية والسلام.

إخواني
          
بين أيدينا وأيديكم، بين صدورنا وصدوركم كتاب الله، الذي نزل على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فليكن كتاب الله، وما جاء فيه دستورنا، نعمل به، ونسير في هداه، فيرفع من شأننا، ويقوي عزيمتنا، ويوحد بين قلوبنا، وينظم من شؤوننا، ولا خير في أمة بين أيديها كتاب الله، وسنة رسوله، ولا تعمل بهما، ولا تسير طبقاً لما فيهما، نادى القرآن بالحق، ونحن نريد الحق، نادى القرآن بالعدل، ونحن نريد العدل. نادى القرآن بالوحدة بين المؤمنين، ونحن نريد الوحدة مع المؤمنين.

إخواني
          
نحن في هذه البلاد، هذه البقعة التي اختصها الله بتشريعه، وجعلها مواطن لعبادته، نقيم حدود الله، ونرعى حقه، مستعينين به. وبكتابه على ديننا ودنيانا، ونأخذ بسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نثابر على خلائقه، واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده. فنلزم أنفسنا بما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، ونقوم فيه بالحق، ولا نميل عن العدل فيما بيننا، ولو كرهنا لقريب من الناس أو لبعيد.

          ولقد خصصنا جزءاً كبيراً مما رزقنا الله من فضله لعمارة الحرمين الشريفين، ومرافقهما أداء لحق الله علينا، وتيسيراً على إخواننا الحجاج من مشارق الدنيا ومغاربها، راجين من الله العون على استكمال ما بدأنا قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.

          ولم نهمل مصالح المسلمين، وحاجتهم إلى التبصر بشؤون دينهم ودنياهم، وتعطشهم إلى العلم والمعرفة. فلقد وفقنا الله تعالى بفضله إلى إنشاء الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهي التي أعلنا في مثل هذه الأيام من العام الماضي عزمنا على تأسيسها؛ لتكون مركزاً لنشر علوم الدين والحضارة الإسلامية بين المسلمين في كافة أنحاء المعمورة. وهذه الجامعة التي هدانا الله إلى إنشائها، يشرف على توجيهها مجلس من أئمة المسلمين وثقاتهم من مختلف البلاد، وتستقبل الطلاب من جميع أقطار الأرض أعزاء مكرمين في وطنهم الروحي، وبين أخوان لهم مقدرين. وتثقفهم في أمور دينهم وديناهم، وتظهرهم على أمجاد دينهم وحضارة إسلامهم، وعندما يتم هؤلاء الطلاب مراحل دراساتهم يعودون إلى بلادهم، رسل هداية ونور، ودعاة لكلمة الله والحق (ولقد استقبلت الجامعة في عامها الدراسي الأول باكورة طلاب من مختلف البلاد الإسلامية).

          وهذه الجامعة وديعة في أيدي المسلمين، يرعونها ويوجهونها الوجهة الصالحة في خدمة رسالة الإسلام وحضارته، وتحقيقاً لما اجتمعت عليه كلمة زعماء المسلمين الذي حضروا اجتماع المؤتمر الإسلامي في مثل هذه الأيام من العام الماضي، من إعداد مشروع لنشر الدعوة الإسلامية، فقد دعونا عدداً من أهل الرأي والاختصاص لإعداد مشروع أولي لهذه الغاية، فتقدموا إلينا بمشروع عملي في هذا الصدد.

          ورغم اقتناعنا بفائدته، فقد آثرنا أن نرجئ التنفيذ حتى نعرض على أهل العلم والتجربة من وفود الحجيج، الذين سيجتمعون لتدارس شؤون دينهم ودنياهم، بعد الفراغ من المناسك إن شاء الله.

          تلك صفحات تنطق ببعض ما قمنا  به، أداء لحق إخواننا المسلمين علينا، وسيراً في الطريق المؤدية لعز الإسلام ومجده، ورفعاً لشأنه.

          كما أننا وقفنا جهودنا على خير شعبنا، وابتغينا كل وسيلة للذب عن مواطنينا الأعزاء وتحقيق الأمن والرفاهية والتقدم لهم، فقد استرعانا الله أمرهم، وألزمنا العدل فيهم، والقيام بحقه وحدوده عليهم، وتحقيق السعادة لهم.  

          فأخذنا بسبيل نهضة شاملة عمت أرجاء البلاد، فأنشأنا المدارس والمعاهد والجامعات؛ لنشر مختلف العلوم والمعارف والفنون والصنائع، وبعثنا البعوث العديدة إلى مختلف معاهد العلم في الخارج، وأقمنا المستشفيات والمستوصفات، ودور الرعاية الاجتماعية، وعبدنا الطرق التي تربط مختلف أنحاء البلاد.

          ورغبة منا في الأخذ بأسباب تقدم البلاد وعمرانها على أسس علمية سليمة، وردها إلى أصول منطقية، قد عهدنا إلى مجلس التخطيط بدرس حاجات البلاد في جميع المرافق العمرانية والاقتصادية، ووضع المشروعات وإعداد مراحل التنفيذ، وفق حاجات البلاد وسيرها الحثيث نحو التقدم والرقي، وعنينا بمتطلبات البلاد الدفاعية في كل واد؛ للذود عن حياضها، ولرد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على مقدساتها، وتراثها الإسلامي على أعقابه، والحفاظ على مثلنا العليا، وقيمنا الإنسانية. وقواتنا الدفاعية ملك للمسلمين والعرب، دفعاً لكل عدوان أثيم يتعرضون له.

          ونظرة إلى ميزانية الدولة للعام الحالي تكفي لإدراك ما خصص من أموال ضخمة للنهوض ببعض هذه المشروعات، كما أن مقارنة ما كانت عليه البلاد منذ عشر سنوات بما هي عليه الآن. تدل على ما حققته البلاد من تقدم سريع ملموس في كافة نواحي الحياة.

          أما في حقل العلاقات الخارجية فنحن باعتبار بلادنا مهبط الوحي والرسالة، وبصفتنا الأمناء على مقدسات الإسلام وتراثه الخالد، نعمل على جمع كلمة المسلمين، وتأليف قلوبهم على الحق، ونسعى لعزة الإسلام ومجده ورفع شأنه؛ ولذلك لا ندخر وسعاً في دعم علاقاتنا الأخوية بالشعوب الإسلامية، وتوثيق عرى المحبة والإخاء، والتعاون على البر والتقوى معها، رفعاً لشأن الملة وإعلاءً لكلمة الحق.

          ولهذه الغاية، وتوثيقاً لعلاقاتنا مع البلاد الإسلامية، قد أنشأنا في هذا العام تمثيلاً دبلوماسياً لنا في البلاد الإسلامية التي استقلت في أفريقيا حديثاً، ونحن عاملون على استكمال التمثيل في مختلف البلاد الإسلامية.

          وأما الشعوب العربية، التي نحن جزء منها، فلا نكن لها إلاَّ المحبة والوفاء، ونعمل معها متضامنين متحابين لما فيه صلاح أحوالنا، وتأمين حاضرنا ومستقبلنا، ونأخذ أنفسنا في علاقاتنا مع الحكومات العربية بحسن الجوار، والموعظة الحسنة، وإنه ليؤسفنا والله أن تشيع الفرقة في صفوف أمتنا العربية، وخاصة في مثل هذه الظروف التي تتطلب منا جميعاً أن نكون في مستوى الأحداث التي تواجه وطننا العربي في شرقه وغربه في شماله وجنوبه، وتحدو بنا أن نتجرد من الأهواء والنزعات، مستجيبين إلى نداء الواجب، وإلى نداء والواجب وحده، فهو أولى أن يسيطر على عقولنا ويتحكم في ضمائرنا.

إخواني
          
إننا تجاوباً مع هذا النداء، نداء الواجب، عملنا وسنعمل ما في وسعنا كي نقصم هذه الفرقة قبل أن تقصمنا، وقفنا في وجهها وسلاحنا حلم وإيمان، حلم نستمده من مشاعر الأخوة، ومن وعي سليم لمسؤولياتنا، وإيمان نستوحيه من قضايانا القومية الكبرى، إخلاصاً لها، وتفانياً في سبيلها، وصبرنا على الأذى والتهم التي وجهت إلينا.

          ولكننا رأينا بعد ذلك أن الأمور أخذت تسير في طرق منحرفة، واتجاهات لا تأتلف مع عقائدنا وتقاليدنا، فاشتدت من جراء ذلك أوار تلك الفرقة، واتسع نطاقها. وكادت أن تؤدي إلى الفتنة بين المسلمين، وكادت تعرض الدين الحنيف إلى أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، فما كان علينا إلاَّ أن نقف لها مستعينين بالله، متجاوبين مع ما يضطرم في نفوس الملايين من أبناء أمتنا، ندافع عن ديننا ومقدساتنا وشريعتنا، التي أنزل الله إلينا، وإن الأمل ليملأ قلوبنا بأن يأخذ الله بيدنا؛ لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وأن يوفقنا لجمع هذه الأمة صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وتستعيد ثقتها بنفسها ودينها ومستقبلها، راجين من الله أن يهدي إخواننا ليحكموا العقل والصالح، لما فيه خير ديننا وأمتنا وبلادنا.

          لقد كان من فضل الله على المسلمين والعرب في عامهم هذا أن كتب النصر لإخواننا الجزائريين في معركتهم التحررية، بما أبلوا في الجهاد بلاء حسناً، وأخذت تباشير صبح جديد تلوح أمامهم من العزة والاستقلال. فنحمد الله على أنعمه، وندعوه أن يتم فضله عليهم، ونحن لم ندخر جهداً، ولن نقصر في بذل كل عون لإخواننا الجزائريين في سبيل إدراك أهدافهم الوطنية، وبناء مستقبلهم من المجد والرفاهية.

          لكن الأمة الإسلامية والعالم العربي، وكل ذي ضمير حي محب للسلام، لن يهدأ لهم بال حتى يرفع الظلم عن فلسطين الشهيدة، ويزول البغي الواقع على شعبها العربي الأبي، وتسترد حقوقها المغتصبة، وتحتل مكانها بين المسلمين والعرب، ففيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فمكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس هي قرة عين المسلمين والعرب، ومهوى أفئدتهم، ولن تدخر بلادي وسعاً لنصرة إخواننا الفلسطينيين، واستردادهم لحقوقهم المغتصبة، وإني أتوجه بدعوة زعماء فلسطين المجاهدين المؤمنين بربهم وقضيتهم وعروبتهم أن يجتمعوا فيما بينهم في هذه البلاد، أو أي مكان يطيب لهم، وينبذوا خلافاتهم الشخصية، ومنازعاتهم السياسية؛ ليتفقوا على طرق عملية موحدة، ونحن مستعدون بما نملك من إمكانيات لمساعدة كل خطة يتفق عليها الجميع، ويكون الهدف منها استخلاص الأرض العزيزة، التي اغتصبتها عصابات صهيونية مجرمة، وسنؤيد ونعضد كل سعي في هذا السبيل أسوة بما قمنا به نحو إخواننا المجاهدين الجزائريين.

          كما أننا آخذون بيد البلاد الإسلامية والعربية التي لا تزال ترزح تحت نير الحكم الأجنبي، وننصرها في كفاحها؛ لنيل حقوقها في الحرية والاستقلال والحياة الكريمة، فلقد ولى عهد الاستعمار إلى غير رجعة.

          كما أننا نبتغي كل وسيلة مشروعة لاسترداد الأجزاء المغتصبة من بلادنا، تلك الأجزاء العزيزة من وطننا. وسنظل باذلين جهودنا، مستعينين بذوي النوايا الصادقة، ومساعيهم الحميدة حتى تعود هذه الأجزاء إلى الوطن. فيصفو الجو، ويفتتح عهد جديد من طيب العلاقات، وفيما عدا هذه الميادين، فعلاقاتنا الخارجية تسير على هدى مبادئنا وتقاليدنا، ومثلنا العليا الإنسانية والروحية والحضارية الإسلامية. ونحن أمة مسالمة وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله لا نضن بجهد، أو مساهمة، أو موعظة حسنة لخدمة السلام العالمي، وخير البشرية جمعاء.

إخواني
          
إنه لمن فضل الله أن وفق كثيراً من إخواننا وقادة البلاد الإسلامية والعربية إلى أداء الفريضة في عامنا هذا. مما كان له أطيب الأثر في نفوسنا، ونفوس شعبنا، وأتاح لنا فرصة تبادل الرأي معهم، فيما يؤدي إلى إعلاء كلمة الله والحق، ويعود إلى المسلمين والعرب بالخير والبركة.

          إخواني إنها لفرصة سعيدة أنتهزها بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن شعبي وحكومتي؛ لأزجي لكم الثناء والتهنئة، داعياً الله أن يوفقكم وإيانا في أداء فريضة الحج ومناسكه. وأن يقبل حجكم وحجنا، ونسككم ونسكنا، وأن يكتب لكم السلامة في الحل والترحال.

          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.