إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



البيان الذي أدلت به السيدة جان مارتن سيسيه (غينيا)،
رئيسة اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري

نشرة الأمم المتحدة الصحفية GA/AP/523، 21 كانون الثاني/ يناير1976

          في هذا العام، تكون قد انقضت ثلاثون سنة على نظر الأمم المتحدة  في مشكلة السيطرة العنصرية في جنوب أفريقيا.

          وفي عام 1946، حين وجهت حكومة الهند انتباه الجمعية العامة إلى هذه المشكلة، بناء على طلب حركة تحرير جنوب أفريقيا، كان من الصعب الحصول على أصوات كافية حتى لمناقشة البند. وكان أفضل ما يأمل فيه وفد حركة تحرير جنوب أفريقيا، الذي رأسه الفقيد الدكتور زوما، هو أن يجد مكانا في مقاعد الزوار.

          ولقد حدث منذ ذلك الحين تغير جذري بسبب نضال شعب جنوب أفريقيا المقهور، وظهور دول جديدة نتيجة للثورة على الاستعمار، والتزايد المستمر لوحشية النظام العنصري، وتعاظم الوعي بالطابع اللاإنساني للفصل العنصري وأخطاره. وقد أصبحت الأمم المتحدة  ملتزمة الآن التزاما راسخا بتأييد نضال شعب جنوب أفريقيا المقهور في سبيل الحرية وتقرير المصير.

          ولم تعد حركة تحرير جنوب أفريقيا على الهامش في الأمم المتحدة، فقد أصبح المؤتمر الوطني الأفريقي لجنوب أفريقيا ومؤتمر الوحدويين الأفريقيين لآزانيا معنا هنا بعد أن اعترف بهما بوصفهما الممثلين الحقيقيين للأغلبية العظمي من شعب جنوب أفريقيا. وأضحى نظام حكم بريتوريا مبعدا عن المداولات التي تجري في هذه المنظمة بوصفه نظاما غير شرعي يمارس سياسية إجرامية.

          وأعلنت الجمعية العامة في دورتها الأخيرة، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثين لإنشاء الأمم المتحدة، أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يتحملان مسؤولية خاصة تجاه شعب جنوب أفريقيا المقهور وحركات تحريره، وتجاه الأشخاص المسجونين أو المقيدة حريتهم أو المنفيين لنضالهم ضد الفصل العنصري. وتعهدت الجمعية العامة ببذل جميع الجهود اللازمة لتأمين استئصال الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على وجه السرعة وتحرير شعب جنوب أفريقيا.

          والواجب الأول للجنة الخاصة هو مساعدة المجتمع الدولي على النهوض بمسؤولياته الخاصة تجاه شعب جنوب أفريقيا المقهور، بالوفاء بالتعهد لمساعدته في نضاله حتى النصر. وهذه مهمة تنطوي على تحد ونحن نقبلها في تواضع، لكن في تصميم.

          …

          ولقد أشرت من قبل إلى قصة نظر الأمم المتحدة في العنصرية في جنوب أفريقيا التي دامت ثلاثين عاما، لأنني اعتقد أننا ينبغي أن نضع في اعتبارنا دوما خبرة الماضي ونحن نرسم طريقنا إلى المستقبل.

          وأود أن أذكِّر بأن كل تقدم أحرز في العمل الدولي لمناهضة الفصل العنصري قد انبثق عن نضال شعب جنوب أفريقيا - تؤازره الدول الأفريقية والآسيوية ودول عدم الانحياز والدول الاشتراكية -على الرغم من مقاومة حكومات ومصالح تفيد من التواطؤ مع النظام العنصري.

          وجدير بالإشارة أنه حين شن شعب جنوب أفريقيا في عام 1952 "حملة العصيان ضد القوانين المجحفة"، بدأت الجمعية العامة في النظر في مشكلة الفصل العنصري ككل، وساعدت البلدان العربية والآسيوية المستقلة حديثا على إثارة الموضوع في الجمعية العامة. وفي ذلك الوقت، عارضت البلدان الغربية وحلفاؤها اتخاذ أي إجراء -حتى إنشاء لجنة لدراسة الحالة، وتمكنت من أن تفرض حل اللجنة في عام 1955.

          وفي عام 1960، وعقب حملة الإجراءات الإيجابية التي شنها مؤتمر الوحدويين الأفريقيين لآزانيا ومذبحة شاربفيل والعصيان الذي اجتاح البلد بأسره وهز أركان النظام العنصري، بدأ مجلس الأمن ينظر في الحالة للمرة الأولى. وعلى الرغم من أن نظام الحكم في جنوب أفريقيا تحدى مجلس الأمن واعتقل الآلاف بموجب حالة الطوارئ، فإن أصدقاء ذلك النظام جعلوا من المستحيل أن يتخذ مجلس الأمن أي إجراء أخر.

          وشرع النظام العنصري في أيار/ مايو1961 في إعلان ما يُدعى "جمهورية" على أساس استفتاء الناخبين البيض. ولم يكن يمكن إقامة هذه الجمهورية المزيفة - غير الشرعية مثل نظام الحكم الذي أنشأه إيان سميث في روديسيا في عام 1965 - إلا باستخدام القوة على نطاق واسع بسبب رفض السود. ولأن جنوب أفريقيا كانت دولة غير شرعية، قررت الدول الأفريقية قطع علاقاتها معها وفرض الجزاءات عليها. وأغلقت البعثة الأفريقية الوحيدة في جنوب أفريقيا، وهي مفوضية مصر في 31 أيار/ مايو 1961. وقرر الكمنولث، بناء على مبادرة غانا وماليزيا التي أيدها أعضاء آخرون بينهم كندا، استبعاد جنوب أفريقيا.

          وحين نعود بناظرينا القهقري نجد أن عام 1961 ليس النقطة الوسطى في مناقشة الأمم المتحدة  للعنصرية في جنوب أفريقيا فحسب، بل ونقطة تحول رئيسية أيضا. فمن ناحية، اضطرت حركات التحرير إلى أن تتخلى في نهاية الأمر عن تمسكها باللاعنف في مواجهة العنف العنصري. ومن ناحية أخرى، أضحى الفصل العنصري يدان بالإجماع، على الرغم من أن الدول الغربية ظلت تقاوم اتخاذ تدابير ملموسة ضد جنوب أفريقيا. وحتى المملكة المتحدة التي ظلت حتى ذلك الوقت تدافع عن جنوب أفريقيا، اشتركت في الإدانة معلنة أن جنوب أفريقيا حالة خاصة.

          وقد أنشئت اللجنة الخاصة بعد ذلك بعام واحد، بموجب قرار الجمعية العامة 1761 (د - 17) المؤرخ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر1972، لإبقاء الحالة قيد النظر المستمر. وبدأت اللجنة عملها في وقت كانت الأزمة فيه قد تعمقت في جنوب أفريقيا وكان يلقى بالآلاف من الوطنين من جنوب أفريقيا في غياهب السجون لمقاومتهم القهر والتعذيب.

          ولقد حاولت اللجنة منذ إنشائها، وعلى الرغم من مقاطعة الدول الغربية، أن تبذل قصاراها لتحقيق أكبر ما يمكن من الاعتراف والتأييد على الصعيد الدولي لكفاح شعب جنوب أفريقيا من أجل التحرر.

          ولقد شددنا على أن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ليس جريمة فحسب ضد شعب جنوب أفريقيا أو سبة في جبين أفريقيا، ولكنه يشكل أيضا تهديدا خطيرا للسلام الذي يهم كل البشر. وقد أكدنا أن الإدانة ليست كافية، وأنه يجب اتخاذ إجراءات ملموسة لعزل النظام العنصري ومساعدة الشعب المقهور وحركة تحريره.

          وقد حاولنا إقناع كل البلدان، بما في ذلك البلدان الغربية، وجميع المنظمات المعنية، بأن تنسى خلافاتها بشأن المسائل الأخرى وتضم صفوفها في عمل متضافر ضد الفصل العنصري، هذه الجريمة التي يدرك العالم كله خطورتها. وقد ناشدنا البلدان الغربية أن تنبذ تفكير "الحرب الباردة" في تعاملها مع جنوب أفريقيا وحذرنا من أن الحكومات والشعوب المحبة للحرية في العالم لا يمكن إلا أن تنظر في عداء إلى أية "كتلة" متحالفة مع نظام الفصل العنصري.

          ولعل بوسعنا أن نسرد بعض الإنجازات التي تحققت في إطار جهودنا. لقد أصبح الفصل العنصري  يدان عالميا بوصفه جريمة فريدة وشنعاء. وأصبح يُسلمَّ بأن المشكلة في جنوب أفريقيا ليست مشكلة انتهاك لحقوق الإنسان أو سجن تعسفي لبضعة أشخاص فحسب بل هي قيام نظام عنصري بقهر الغالبية العظمى من الشعب. ولقد صدرت قرارات وإعلانات، بأغلبيات ساحقة، تلزم الأمم المتحدة والدول الأعضاء بتأييد نضال شعب جنوب أفريقيا. وهناك حظر على الأسلحة لا يخلو من الأهمية، على الرغم من الانتهاكات المؤسفة التي يرتكبها بعض الدول. ولقد أنشئت صناديق لمساعدة شعب جنوب أفريقيا المقهور، كما قدمت الدول في سائر أرجاء العالم تبرعات كبيرة.

          ومع انهيار الاستعمار البرتغالي، انتقلت حدود الحرية إلى حدود جنوب أفريقيا. وأفادت اللجنة الخاصة في عام 1974 بأن مرحلة جديدة قد بدأت في كفاح شعب جنوب أفريقيا وجهود المجتمع الدولي من أجل استئصال الفصل العنصري. وحذرت من مناورات نظام حكم جنوب أفريقيا وأعلنت أنه أصبح من اللازم تعزيز العمل الدولي المتضافر من أجل تشجيع التحرر. ولقد كرست اللجنة الخاصة منذ ذلك الحين جهودا أكبر من أي وقت مضى لتحقيق العمل المتضافر، لا سيما عن طريق المشاورات الصريحة مع الدول الغربية.

          وهذا هو السياق الذي نشعر فيه بالقلق إزاء مواقف بعض الدول في الآونة الأخيرة تجاه نظام حكم جنوب أفريقيا وعدوانه في أنغولا. وهناك محاولة لإلغاء أوجه التقدم التي تحققت في الأعوام الثلاثين الماضية في العمل الدولي المناهض للفصل العنصري.

          بل ولقد حاولت إحدى الدول الكبرى إضعاف العمل ضد نظام حكم جنوب أفريقيا بوصفه بأنه "إدانة انتقائية"، مقتبسة عبارة من دعاية جنوب أفريقيا. وزعمت منظمة في نيويورك، انتحلت لنفسها دور قاضي الحرية، أن جو الحرية في جنوب أفريقيا أفسح منه في بعض البلدان الأفريقية المستقلة. ومن المحتمل أن نكتشف وشيكا أن الحرية في ظل الرق بالولايات المتحدة كانت أكبر منها بعد الحرب الأهلية!

          وقد طالبنا مسؤول كبير في الولايات المتحدة  الأمريكية بأن ندرس مزايا وعيوب انسحاب المعتدين من رجال جنوب أفريقيا من أنغولا.

          وكنا نعتقد أنه بعد الدراسة التي أجرتها الأمم المتحدة  كل هذه السنوات أصبح من المتفق عليه أن النظام العنصري يجب أن ينسحب ليس فقط من أنغولا بل وكذلك من ناميبيا ومن جنوب أفريقيا ذاتها - بل ومن على وجه هذه البسيطة‍!  

          وإذا كنت قد اضطررت إلى أن أشير على وجه التحديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإنني أفعل هذا في أسى لأن لدينا الحق في أن نتوقع التعاون من هذا البلد الذي أعلن مرارا بغضه للفصل العنصري.

          وفيما يتعلق بعدوان جنوب أفريقيا في أنغولا، فإن الحقائق واضحة كل الوضوح. فقد شن النظام العنصري، الذي يشجبه المجتمع الدولي، عدوانا عسكريا على شعب أفريقي يوشك أن ينال استقلاله الذي كلفه غاليا. وقد شن هذا النظام عدوانه من إقليم ناميبيا الذي يحتله بصورة غير مشروعة - إقليم تتولى الأمم المتحدة مسؤولية خاصة عنه. وقد عبر حدود ناميبيا كي يهاجم مقاتلي المنظمة الشعبية لأفريقيا الجنوبية الغربية "سوابو"، وهي حركة تحرير تعترف بها الأمم المتحدة  بوصفها الممثل الحقيقي للشعب الناميبي، وهدد بأن يشن عدوانا مماثلا على الدول الأخرى التي تقدم العون لسوابو.

          بيد أن الأمر الذي أثار دهشتنا وأسفنا هو أن بعض الدول، التي تتحمل مسؤولية خاصة عن السلم الدولي، تقترح أن تكون هناك مساومة حول عدوان جنوب أفريقيا. ويبدو كما لو أن قوات النظام العنصري هي الكلاب التي أطلقتها دولة خارجية تعرض الآن أن تكبح جماحها بمقابل.

          ولا يسعنا إلا أن نعلن مرة أخرى بصورة قاطعة: يجب أن ترغم قوات جنوب أفريقيا على الانسحاب انسحابا غير مشروط. ولا يمكن أن يكون هناك ثمن يدفع للنظام العنصري وإنما ينبغي أن يجازى فقط بعقاب على هذه الجريمة الجديدة من جرائم العدوان.

          ونحن على وعي، بطبيعة الحال، بالدعاية التي يطلقها نظام بريتوريا بشأن خطر الشيوعية المزعوم. وقد قام هذا النظام منذ سنوات عديدة مضت بقمع وحشي لحركات التحرير في جنوب أفريقيا زاعما أنه يقمع الشيوعية، ثم مضى بعد ذلك إلى مهاجمة سوابو مدعيا أن سوابو "شيوعية" وأن المناضلين من أجل الحرية فيها لديهم أسلحة سوفياتية. وهو يستخدم الآن نفس الشعار في ارتكاب العدوان ضد شعب أنغولا.

          على أن حسابات العنصريين في جنوب أفريقيا ليست سرا مغلقا. فهم يحاولون باستمرار الخروج من عزلتهم بإقناع البلدان الغربية بأن لديهم مصلحة مشتركة معها- سواء كانت الدفاع عن طريق رأس الرجاء الصالح أو أمن المحيط الهندي أو "الحرب الباردة". وهم يعتقدون أن بوسعهم استخدام أنغولا لهذا الغرض.

          إنني أعتقد أن العنصريين في جنوب أفريقيا لديهم خطة أكثر طموحا بكثير. وهم يشعرون بالحنين إلى الأيام الخوالي حين كانوا يُستقبلون في مجالس القوى الاستعمارية في أفريقيا ليناقشوا كيف يمكن تأخير مسيرة الحرية في أفريقيا. وهم يتلهفون على الحصول على الاعتراف بهم كدولة إمبريالية ناشئة تهيمن على الجنوب الأفريقي. وقد استثمروا لهذا الغرض بشدة في الأسلحة وفي الدعاية.

          ويبدو لي أن اللجنة الخاصة وكل خصوم الفصل العنصري يجب أن يشجبوا ويحبطوا خطواته الرامية إلى تعزيز الروابط بين جنوب أفريقيا والدول الغربية.

          وعلى اللجنة الخاصة، من جانبها، أن تكثف جهودها للتعريف بمناورات النظام العنصري والمتعاونين معه. ويجب عليها أن تحلل الوضع الجديد الناشئ عن المغامرات اليائسة التي يقوم بها النظام العنصري فيما يتجاوز كثيرا حدود جنوب أفريقيا. ويجب عليها أن تواصل وتكثف المشاورات مع الحكومات والمنظمات، ولا سيما حكومات شركاء التجارة الرئيسين لجنوب أفريقيا، من أجل تحقيق مزيد من العمل المتضافر. ويجب عليها أن تسهم بأقصى ما في وسعها- بالتعاون الوثيق مع حركات التحرير ومنظمة الوحدة الأفريقية وحركة عدم الانحياز وجميع أصدقاء الحرية- من أجل تحرير شعب جنوب أفريقيا. وهذا تحد نقبله كواجب منوط بنا.